إن الله شرع لعباده ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وسعادتهم في أخراهم، وقد امتحن عباده بما شرع لهم من العبادات والمعاملات، ليمحص بذلك من يعبد مولاه، ومن يتبع هواه، فمن امتثل شرعه ووقف عند حدوده بصدر منشرح، ونفس مطمئنة، نال الفوز والفلاح، ومن أخذ من ذلك ما يلائم رغبته، ويصادف هوى في نفسه، ونبذ ما سوى ذلك وراء ظهره خسر الدنيا والآخرة.

وقد جعل من هذه العبادات ما يتعلق بعمل البدن كالصلاة، وما يتعلق ببذل المال، كالزكاة، وما يجمع بين هذين كالحج والجهاد، وجعل منها ما يستوجب كف النفس عن محبوباتها ومشتهياتها كالصيام.

ولكل من هذه العبادات حكم بالغة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها أو تجاهلها.

ومن هذه العبادات الصيام، ومن حكمه وفوائده، أنه طاعة لله عز وجل يثاب عليها المؤمن ثوابا غير محدود فقد ورد في البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد.

وفي هذا من التكريم والخصوصية ما لا مزيد عليه، ومن هذه الفوائد أن شهر الصيام تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب جهنم، وتصفد فيه الشياطين، كما جاء في البخاري، ومنها أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وقد ورد في فضلها وعظم شأنها حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

وهكذا نرى أن الله تعالى جعل شهر الصوم موسماً سنوياً تكرم به على عباده؛ ليكون لهم مناسبة يحطون فيها عنهم الأوزار والآثام، فيخرجون منها بصحائف بيض، ولكنه تعالى خص بهذه التحفة عباده الذين يصومون بجميع جوارحهم عما حرم الله فيجمعون بين صوم الظاهر والباطن، فيستحقون ما لا يستحقه غيرهم، يقول الرسول صلى الله عليه سلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. أخرجه البخاري.

ومن فوائد الصيام أنه مدرسة خلقية كبرى متعددة الجوانب يتدرب فيها المؤمن سنوياً على كثير من الخصال الحميدة، منها: جهاد النفس ومقاومة الأهواء، وخلق الصبر على ما قد يُحْرَم منه، وتدريبه على الأمانة، ومراقبة الله في ظاهره وباطنه، إذ لا رقيب على الصائم إلا الله، وكفى به رقيباً.

ومنها: أنه يقوى الإرادة ويشحذ العزيمة، ويعود على النظام والانضباط.

ومنها: أنه ينمي في المسلم عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون التي تربط بين المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والعطش إلى أن يمد يد العون والمساعدة للآخرين الذين كانوا يقاسون مرارة الفقر والحرمان طيلة أيام السنة.

ومنها: أنه يذكر الصائم بنعم الله عليه إذ منحه القدرة على هذه العبادة التي ينال بها جزيل الثواب في وقت حُرِمَ فيه آخرون منها.

ومنها: أن الصوم يجسد وحدة المسلمين في العبادة والسير على منهج موحد في هذه العبادة كغيرها، في هذا الشهر فسلوكهم فيه متشابه سواء في ذلك القاصي والداني.

ومنها: الفوائد الصحية الكثيرة التي يجنيها الصائمون في فترة الصيام، وقد أثبت الطب الحديث بأبحاثه وتجاربه وما توصل إليه من نتائج أن الصوم أفضل وسيلة للإنسان للتخلص من كثير من الأمراض والمعاناة التي عجز الأطباء عن علاجها.

وهكذا نجد أن الصيام مدرسة خصبة يجدد فيها المسلم ما وهي من عرى إسلامه، ويأخذ فيها ما قصر في أخذه خارجها، ودورة يتخرج منها المسلم في ثوب إيماني جديد، يدخل به في مستقبل أفضل، بهمة قوية في كسب الخير وعلاج ما يلم به من خلل، وما عسى أن يخلق منه المسلم المستقيم في سلوكه، البصير بما يصلح أمر دينه ودنياه.